فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والقنوت: يجمع الطاعات كلّها مفروضَها ومسنُونها، وتركَ المنهيات والإقلاع عنها ممن هو مرتكبها، وهو معنى التوبة، فالقنوت هو تمام الطاعة، فهو مساوٍ للتقوى.
فهذه جوامع شرائع المكلفين في أنفسهم.
والصدق: يجمع كلّ عمل هو من موافقة القول والفعل للواقع في القضاء والشهادة والعقود والالتزامات وفي المعاملات بالوفاء بها وترك الخيانة، ومطابقة الظاهر للباطن في المراتب كلّها.
ومن الصدق صدق الأفعال.
والصبر: جامع لما يختص بتحمل المشاقّ من الأعمال كالجهاد والحسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصحة المسلمين وتحمل الأذى في الله، وهو خلق عظيم هو مفتاح أبواب محامد الأخلاق والآداب والإِنصاف من النفس.
والخشوع: الإخلاص بالقلب والظاهر، وهو الانقياد وتجنب المعاصي، ويدخل فيه الإِحسان وهو المفسر في حديث جبريل «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
ويدخل تحت ذلك جميع القُرَب النوافل فإنها من آثار الخشوع، ويدخل فيه التوبة مما اقترفه المرء من الكبائر إذ لا يتحقق الخشوع بدونها.
والتصدق: يحتوي جميع أنواع الصدقات والعطيات وبذل المعروف والإِرفاق.
والصوم: عبادة عظيمة، فلذلك خُصصت بالذكر مع أن الفرض منه مشمول للإِسلام في قوله: {إن المسلمين والمسلمات} ويفي صوم النافلة، فالتصريح بذكر الصوم تنويه به.
وفي الحديث: «قال الله تعالى: الصوم لي وأنا أجزي به».
وحفظ الفروج: أريد به حفظها عما ورد الشرع بحفظها عنه، وقد اندرج في هذا جميع أحكام النكاح وما يتفرع عنها وما هو وسيلة لها.
وذكرُ اللَّه كما علمت له محملان:
أحدهما: ذكرهُ اللساني فيدخل فيه قراءة القرآن وطلب العلم ودراسته.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيَتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده» ففي قوله: «وذكرهم اللَّه» إيماء إلى أن الجزاء من جنس عملهم فدل على أنهم كانوا في شيء من ذِكر الله وقد قال تعالى: {فاذكروني أذكرْكُم} [البقرة: 152] وقال فيما أخبر عنه رسولُه صلى الله عليه وسلم: «وإن ذكرني في مَلأَ ذكرته في ملأ خير منهم». وشمل ما يذكر عقب الصلوات ونحو ذلك من الأذكار.
والمحمل الثاني: الذكر القلبي وهو ذكر الله عند أمره ونهيه كما قال عمر بن الخطاب: أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، وهو الذي في قوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} [آل عمران: 135] فدخل فيه التوبة ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها من القتل وأخذ أموال الناس والحِرابة والإِضرار بالناس في المعاملات.
ومما يوضح شموله لهذه الشرائع كلها تقييده ب {كثيرًا} لأن المرء إذا ذَكَر الله كثيرًا فقد استغرق ذكره على المحملين جميعَ ما يُذكر الله عنده.
ويراعى في الاتصاف بهذه الصفات أن تكون جارية على ما حدده الشرع في تفاصيلها.
والمغفرة: عدم المؤاخذة بما فَرَط من الذنوب، وقد تقدمت في قوله تعالى: {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لكونن من الخاسرين} في سورة الأعراف (23).
واعلم أن عطف الصفات بالواو المفيد مجرد التشريك في الحكم دون حرفي الترتيب: الفاءِ وثم، شأنه أن يكون الحكم المذكور معه ثابتًا لكل واحد اتصف بوصف من الأوصاف المشتق منها موصوفُه لأن أصل العطف بالواو أن يدل على مغايرة المعطوفات في الذات، فإذا قلت: وجدت فيهم الكريم والشجاع والشاعر كان المعنى: أنك وجدتَ فيهم ثلاثة أُناس كل واحد منهم موصوف بصفة من المذكورات.
وفي الحديث: فإن منهم المريض والضعيف وذا الحاجة أي أصحاب المرض والضعف والحاجة، بخلاف العطف بالفاء كقوله تعالى: {والصافات صفًا فالزاجرات زجرًا فالتاليات ذكرًا} [الصافات: 1 3] فإن الأوصاف المذكورة في تلك الآية ثابتة لموصوف واحد.
ولهذا فحقّ جملة {أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا} أن تكون خبرًا في المعنى عن كل واحد من المتعاطفات فكأنه قيل: إن المسلمين أعدّ الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا، إن المسلمات أعدّ الله لهن مغفرة وأجرًا عظيمًا، وهكذا.
والفعل الواقع في جملة الخبر وهو فعل {أعد} قد تعدى إلى مفعول ومعطوف على المفعول فصحة الإِخبار به عن كل واحد من الموصوفات المتعاطفات باعتبار المعطوف على مفعوله واضحة لأن الأجر العظيم يصلح لأن يُعطى لكل واحد ويقبل التفاوت فيكون لكل من أصحاب تلك الأوصاف أجره على اتصافه به ويكون أجر بعضهم أوفر من أجر بعض آخر.
وأما صحة الإِخبار بفعل {أعد} عن كل واحد من المتعاطفات باعتبار المفعول وهو {مغفرة} فيمنع منه ما جاء من دلائل الكتاب والسنة الدالة على أن الذنوب الكبيرة التي فرطت لا يضمن غفرانها للمذنبين إلا بشرط التوبة من المُذنِب وعدًا من الله بقوله: {كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم} [الأنعام: 54].
وألحَقَت السنة بموجبات المغفرة الحجّ المبرور والجهاد في سبيل الله وأشياء أخرى.
والوجه في تفسير ذلك عندي: أن تُحمل كل صفة من هذه الصفات على عدم ما يعارضها مما يوجب التبعة، أي سلامته من التلبس بالكبائر حملًا أُراعي فيه الجري على سَنَن القرآن في مثل مقام الثناء والتنويه بالمسلمين من اعتبار حال كمال الإِسلام كقوله: {أولئك هم المؤمنون حقًا} [الأنفال: 4] فإنا لا نجد التفصيل بين أحوال المسلمين إلا في مقام التحذير من الذنوب.
والمرجع في هذا المحمل إلى بيان الإِجمال بالجمع بين أدلة الشريعة.
وقد سكت جمهور المفسرين عن التصدّي لبيان مفاد هذا الوعد ولم يعرّج عليه فيما رأيت سوى صاحب الكشاف فجعل معنى قوله: {أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا} أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعدّ الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا، وجعل واو العطف بمعنى المعية، وجعل العطف على اعتبار المغايرة بين المتعاطفات في الأوصاف لا المغايرة بالذوات، وهذا تكلّف وصنع باليد، وتبعه البيضاوي وكثير.
ويعكّر عليه أن جمع تلك الصفات لا يوجب المغفرة لأن الكبائر لا تسقطها عن صاحبها إلا التوبة، إلا أن يضم إلى كلامه ضميمة وهي حمل {والذاكرين الله والذاكرات} على معنى المتصفين بالذكر اللساني والقلبي، فيكون الذكر القلبي شاملًا للتوبة كما في قوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللَّه فاستغفروا لذنوبهم} [آل عمران: 135] فيكون الذين جمعوا هذه الخصال العشر قد حصلت لهم التوبة، غير أن هذا الاعتذار عن الزمخشري لا يتجاوز هذه الآية، فإن في القرآن آيات كثيرة مثلها يضيق عنها نطاق هذا الاعتذار، منها قوله تعالى: {وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونًا} إلى قوله: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} الآية في سورة الفرقان [63، 75]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}.
قلنا: إن هذه الآية نزلة تطيبًا لخاطر السيدة أسماء بنت عميس زوجة سيدنا جعفر بن أبي طالب، لما حدَّثَتْ سيدنا رسول الله في أمر الأحكام، وأنها تنزل وتتوجَّه في الغالب إلى الرجال، ويبدو أنها حدَّثَتْ رسول الله في أمر النساء، وأن منهن مثل الرجال مسلمات ومؤمنات.. إلخ.
ونلحظ أن الآية بدأت بذكر الإسلام، ثم الإيمان، فأيّهما يسبق الآخر؟ ونجد إجابة هذا السؤال في قول الحق سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
فالإسلام أنْ تؤدي أعمال الإسلام بصرف النظر، أكان أداؤك لها عن إيمان أو عن غير إيمان؟ لأن الإسلام تلقِّي حكم، أما الإيمان فأنْ تؤمن بمَنْ حكم، وتُصدِّق مَنْ بلَّغك هذا الحكم، وعليه فالإيمان سابق للإسلام.
لذلك جاءت هذه الآية لتفضح هؤلاء الأعراب الذين تستروا وراء الأعمال الظاهرة للإسلام، وهم غير مؤمنين بها، وقد يأتي الإيمان بعد الإسلام حين تؤدي أعمال الإسلام فتحلُو لك، وتجذبك إلى الإيمان والتصديق.
لذلك، فرح هؤلاء الأعراب لقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] وقالوا الحمد لله؛ لأن لَمَّا لا تدخل إلا على ما يمكن أنْ يجيء، كأن تقول: لَمَّا يثمر بستاننا، وثد أثمرتْ البساتين، والمعنى: أنه سيثمر فيما بعد.
قالوا: لأن هناك كثيرًا من الأحكام أنت لا تؤمن بالذي حكم بها إلا إذا أدركتَ حلاوتها، فالرجل الذي جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام، وطلب منه أنْ يبيت عنده، أو: أنْ يضيفه، فسأله إبراهيم عليه السلام عن دينه فقال: إنه مجوسي، فردَّ الباب في وجهه، فعاتبه ربه في ذلك، وقال له: يا إبراهيم تريده أنْ يغير دينه لضيافة ليلة، وأنا أَسَعُه طوال عمره وهو كافر بي؟ فأسرع إبراهيم في إثر الرجل حتى لحق به ودعاه إلى بيته، فقال الرجل: ألم تنهرني منذ قليل، فماذا حدث؟ فقال: لقد عاتبني ربي فيك، فقال الرجل: نِعْم الربّ ربٌّ يعاتب أحبابه في أعدائه، أشهد ألاَّ إله إلا الله.
وقد اشتملتْ هذه الآية على عشر صفات، بدأت بالمسلمين والمسلمات، وانتهت بالذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، وكأن الله تعالى أوجد مراد السيدة أسماء بنت عُميس في هذه الصفات العَشْر التي جمعتْ الرجال والنساء، واشتملت على كل أنواع التكليف، وهي برقية تدلُّ على أن حكم المرأة التكليفي مطمور في باطن الرجل، وهذه هي الأصول.
ومعنى {والقانتين} [الأحزاب: 35] المداومون على عبادة الله وطاعته في خشوع وتضرُّع كما نفهم من قوله تعالى: {والمتصدقين والمتصدقات} [الأحزاب: 35] أن للمرأة ذمتها المالية المستقلة وحرية التصرُّف في مالها بغير إذن زوجها إذا كانت تملك إرثًا أو هبة من زوجها أو من غيره، فلا ولايةَ عليها من أحد.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن الزكاة، وهذه من مَيْزات المرأة في الإسلام، حيث كانت قبل الإسلام، وحتى في الحضارات الحديثة تابعة لأبيها أو لزوجها، والصدقة تشمل الزكاة؛ لأن الله قال فيها: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا} [التوبة: 60].
فالصدقة هي العنوان الأعم، ومعناها أنك صدَّقْتَ الحق سبحانه حين استأمنك على خير، فاستنبط بمجهودك وسعيك في أرض الله التي خلقها، فكأنك تُحقِّق ما كان من سيدنا أبي بكر حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا صنع بماله الذي كسبه في الغنيمة؟ قال تصدَّقْتُ به كله، فقال له: «وماذا أبقيتَ لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله. فلما سأل عمر- رضي الله عنه- قال: تصدَّقْتُ بنصفه، ولله عندي نصفه.
فكلٌّ منهما تصرَّف في ماله تصرُّفًا منطقيًا يناسبه.
وإنْ كانت الزكاة يُراد بها نماء المال وطهارته، فالصدقة عطاء لا يُرَاد به إلا وجه الله وثوابه في الآخرة، فكأن المتصدِّق يريد أنْ يبرَّ، وأنْ يعترف لله المعطي بالفضل؛ لأن الله مكَّنه من مال لم يُمكِّن منه الضعيف، ولا غير القادر.
ثم ذكر الحق سبحانه تكليف الصوم {والصائمين والصائمات} [الأحزاب: 35] والصوم أخذ حُكْمًا فريدًا من بين أحكام التكاليف كلها، والحق سبحانه جعل لكل تكليف من التكاليف كادر خاص في الجزاء إلا الصوم، فليس له كادر محدد، لذلك قال عنه الحق سبحانه: «إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به» يعني: قرار عالٍ فوق الجميع، فلماذا أخذ الصوم هذه المنزلة؟
قالوا: لأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يعبد بها بشرٌ بشرًا أبدًا، فمن الممكن مثلًا في شهادة أنْ لا إله إلا الله أنْ يأتي مَنْ يمدح آخر، فيقول له: ليس في الكون إلا أنت، أنت النافع وأنت الضار، وهناك من قال عن نفسه: أنا الزعيم الأوحيد، كذلك في الصلاة نرى مَنْ يخضع ويسجد لغير الله كما نخضع ونسجد نحن في الصلاة، وكذلك في الزكاة نتقرب إلى العظيم أو الكبير بالهدايا له أو لمن حوله.
لكن، هل قال بشر لبشر: أنا أصوم شهرًا، أو يومًا تقرُّبًا إليك؟ لا.. لأن الصيام للغير المماثل تذنيب للمصوم له لا للصائم؛ لأنه سيُضطرّ لأنْ يظل طوال اليوم يراقبك، أكلتَ أم لم تأكل؟
ولأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يتقرب بها بشر لبشر قال الله عنها في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به» يعني: جزاؤه خارج المقرر كما قلنا.
ومن عظمة تكليف الصوم أيضًا أن الله تعالى أحلَّ لنا أشياء، وحرَّم علينا أشياء أخرى تحريمًا أبديًا، فالذي تحمَّل التكليف أَلِفَ الحلال ولم يألف ما حُرِّم عليه، ورسختْ هذه العقيدة في نفسه، حتى أن الحرام لا يخطر بباله أبدًا، فلم يأْتِ على باله مرة مثلًا أنْ يشرب الخمر، أو يأكل الميتة، فهذه مسألة منتهية بالنسبة له، فأراد الله تعالى أنْ يديم لذَّة التكليف على البشر، ففرضَ الصومَ الذي يُحرِّم عليك اليوم ما كان مُحلَّلًا لك بالأمس ومألوفًا حتى صار عادة.
إذن: هناك فَرْق بين دوام العادة ولذة العبادة، وتأمل مثلًا يوم الفطر، والفطر عادة لك في غير هذا اليوم، وأنت حر تفطر أو لا تفطر، فإذا ما جاء يوم عيد الفطر أخرجك ربك من العادة إلى العبادة، وجعله تكليفًا أنْ تفطر قبل الخروج للصلاة.
ثم يقول تعالى: {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} [الأحزاب: 35] جاءتْ مسألة حِفْظ الفروج بعد ذكر الصيام؛ لأن الصيام امتناعٌ عن شهوتَيْ البطن والفرج، شهوة البطن جعلها الله تعالى لحفظ الحياة بالطعام والشراب، وشهوة الفرج جعلها الله تعالى لحفظ النوع بالنكاح والتناسل.
قُلْنا: إن الله تعالى أرضى السيدة أسماء رضي الله عنها الممثِّلة لجنس النساء، فذكر أنواع التكاليف مرة للمذكَّر، ومرة للمؤنث، لكنه راعي في ذلك سَتْر المرأة، وهنا أيضًا يُراعي هذه المسألة، فيقول: {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} [الأحزاب: 35] حينما تكلم عن المذكَّر قال: {والحافظين فُرُوجَهُمْ} [الأحزاب: 35] ولم يقُلْ: والحافظات فروجهن؛ لأن أمر النساء ينبغي أنْ يُسْتر وأنْ يُصَان.
ثم يقول سبحانه: {والذاكرين الله كَثِيرًا والذاكرات} [الأحزاب: 35] ويعود إلى مسألة السَّتْر مرة أخرى في قوله: {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] فقال: {لهم} على سبيل التغليب، وسَتْر المرأة في الرجل، وهذه مسألة مقصودة يُراد بها شرف للمرأة، وصيانة لها، لا إهمالها كما يدَّعي البعض، ومن هذه الصيانة ما نقوله نحن عن المرأة: معي أهلي أو الأولاد أو الجماعة، ونقصد بذلك سَتْرها وصيانتها لا إهمالها، أو التقليل من شأنها.
فكأن الحق سبحانه حينما أرضى السيدة أسماء نيابةً عن المرأة المسلمة، فذكر ما ذكر من جمع المؤنث الذي يقابل جمع المذكر، أراد أنْ يبني حول المرأة سياجًا من الستر في كل شيء حتى في التكاليف.
ونلحظ على سياق الآية هنا أيضًا أنه قدَّم المغفرة على الأجر؛ لأن القاعدة كما قُلْنا: إن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة، والحق سبحانه يُعد لعباده الأجر على الحسنة التي فعلوها، مع أنه سبحانه لا ينتفع منها بشيء إنما يعود نَفْعها على المكلَّف نفسه، ''فهو يستفيد بالطاعة وينال عليها الأجر في الآخرة.
أما الحق سبحانه فغنيٌّ عنَّا، وعن طاعتنا، واقرأ الحديث القدسي: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلْكي شيئًا، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا».
إذن: نحن المستفيدون من التكاليف، ففيها صلاحُنَا في الدنيا، ثم نأخذ عليها الأجر يوم القيامة.
لذلك نجد الكثير من الرسل يقولون لأقوامهم: {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109] كأنه يقول: الذي أؤديه لكم من تبليغ دعوة الله في عرف الاقتصاد والتبادل يقتضي أنْ آخذَ عليه أجرًا؛ لأنني أؤدي لكم خدمة، لكن ماذا سآخذ منكم أيها العرايا وأجري عالٍ لا يقدر عليه المكلَّف {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} [يونس: 72] فهو وحده القادر على أنْ يجازيني بما أستحق.
ووَصْف الأجر بأنه عظيم يدلُّ على كِبَر في الحجم، ونَفَاسة في الصفات، وامتداد في الزمن، وهذه هي عناصر العظمة في الشيء، وأيُّ أجر عظيم من أجر الله لعباده في الآخرة؟. اهـ.